سورة الأحقاف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


كذَا قولُه تعالى: {تُدَمّرُ} أي تهلكُ {كُلّ شَىْء} من نفوسهم وأموالهم {بِأَمْرِ رَبّهَا} وقرئ: {يدمر كلَّ شيءٍ} من دمَّر دماراً إذا هلكَ فالعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أو هو الهاءُ في ربِّها ويجوزُ أن يكونَ استئنافاً وارداً لبيانِ أنَّ لكلَّ ممكنٍ فناءً مقضياً منوطاً بأمرِ بارئهِ، وتكونُ الهاءُ لكلِّ شيءٍ لكونِه بمعنى الأشياءِ وفي ذكرِ الأمرِ والربِّ والإضافةِ إلى الريحِ من الدلالة على عظمةِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يَخْفى. والفاءُ في قولِه تعالى: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم} فصيحةٌ أي فجاءتْهُم الريحُ فدمرتْهُم فأصبحُوا بحيثُ لا يُرى إلا مساكنُهم. وقرئ: {تَرَى} بالتاءِ ونصبِ مساكنُهم. خطاباً لكلِّ أحدٍ يتأتَّى منه الرؤيةُ تنبيهاً على أنَّ حالَهُم بحيثُ لو حضرَ كلُّ أحدٍ بلادَهُم لا يَرَى فيها إلا مساكنَهُم. {كذلك} أي مثلَ ذلكَ الجزاء الفظيعِ. {نَجْزِي القوم المجرمين} وقد مرَّ تفصيلُ القصةِ في سورةِ الأعرافِ. وقد رُويَ أنَّ الريحَ كانتْ تحملُ الفُسطاطَ والظَّعينةَ فترفعُها في الجوِّ حتى تُرى كأنَّها جرادةٌ. قيلَ: أولُ من أبصرَ العذابَ امرأةٌ منُهم قالتْ رأيتُ ريحاً فيها كشهبِ النَّارِ، ورُويَ أنَّ أولَ ما عرفُوا به أنَّه عذابٌ ما رأوا ما كانَ في الصحراءِ من رحالِهم ومواشيهم تطيرُ بها الريحُ بينَ السماءِ والأرضِ فدخلُوا بيوتَهم وغلَّقوا أبوابَهم فقلعتِ الريحُ الأبوابَ وصرعَتْهم فأمالَ الله تعالى الأحقافَ فكانُوا تحتَها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ لهم أنينٌ ثم كشفتِ الريحُ عنهُم فاحتملتهم فطرحتْهُم في البحرِ. ورُوِيَ أنَّ هُوداً عليهِ السَّلامُ لمَّا أحسَّ بالريحِ خطَّ على نفسِه وعلى المؤمنينَ حظاً إلى جنبِ عينٍ تنبَعُ. وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا اعتزلَ هودٌ ومن معَهُ في حظيرةِ ما يصيبُهم من الريحِ إلا ما يلينُ على الجُلودِ وتلذه الأنفسُ وإنَّها لتمرُّ من عادٍ بالظعنِ بينَ السماءِ والأرضِ وتدمغُهم بالحجارةِ.
{وَلَقَدْ مكناهم} أي قررنَا عاداً أو أقدرنَاهُم، وما في قولِه تعالى: {فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} موصولةٌ أو موصوفةٌ، وأنْ نافيةٌ، أيْ في الذِي أو في شيءٍ ما مكنَّاكُم فيهِ من السَّعةِ والبسطةِ وطولِ الأعمار وسائرِ مبادِيِ التصرفاتِ كَما في قولِه تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} وممَّا يُحسِّنُ موقعَ إنْ هَهُنا التَّفَصِّي عن تكررِ لفظةِ مَا، وهُو الدَّاعِي إلى قلبِ ألِفها هاءً في مَهْمَا، وجعلُها شرطيةً أو زائدةً مِمَّا لاَ يليقُ بالمقامِ. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً} ليستعملُوهَا فيمَا خُلقتْ لهُ ويعرفُوا بكلَ منَها ما نِيطتْ بهِ معرفتُه من فنونِ النعمِ ويستدلُّوا بها على شؤونِ منعمِها عزَّ وجلَّ ويداومُوا على شُكرِه. {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} حيثُ لم يستعملُوه في استماعِ الوَحي ومواعظِ الرسلِ.
{وَلاَ أبصارهم} حيثُ لم يجتلُوا بها الآياتِ التكوينيةَ المنصوبةَ في صحائفِ العالمِ. {وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ} حيثُ لم يستعملُوها في معرفةِ الله تعالَى. {مِن شَىْء} أي شيئاً من الإغناءِ. ومِنْ مزيدةٌ للتأكيدِ. وقولُه تعالى: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم} متعلقٌ بما أَغْنَى وهو ظرفٌ جَرَى مجرى التعليلِ من حيثُ أنَّ الحكمَ مرتبٌ على ما أضيفَ إليهِ فإنَّ قولَكَ أكرمتُه إذْا أكرمنِي، في قوةِ قولِك أكرمتُه لإكرامِه لأنَّك أذا أكرمتَهُ وقتَ إكرامِه فإنَّما أكرمْتَه فيه لوجودِ إكرامِه فيهِ وكذا الحالُ في حيثُ {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونَهُ بطريقِ الاستهزاءِ ويقولونَ فائْتنِا بما تعدُنا إن كنتَ من الصادقينَ.


{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} يا أهلَ مكةَ {مّنَ القرى} كحِجْرِ ثمودٍ، وقُرى قومِ لوطٍ. {وَصَرَّفْنَا الأيات} كررنَاها لَهُم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكي يرجعُوا عمَّا هُم فيهِ من الكُفر والمَعَاصِي. {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ} القُربانُ: ما يُتقربُ بهِ إلى الله تعالَى. وأحدُ مفعولَيْ اتخذُوا ضميرُ الموصولِ المحذوفِ، والثانِي آلهةً، وقرباناً حالٌ، والتقديرُ فهلاَّ نصرهُم وخلَّصُهم من العذابِ الذين اتخذُوهم آلهةً حالَ كونِها متقرَّباً بَها إلى الله تعالَى، حيثُ كانُوا يقولونَ ما نعبدُهم إلا ليقربونَا إلى الله زُلْفى، وهؤلاءِ شفعاؤُنا عندَ الله. وفيه تهكمٌ بهم، ولا مساغَ لجعلِ قرباناً مفعولاً ثانياً، وآلهةً بدلاً منه لفسادِ المَعْنى؛ فإنَّ البدلَ وإنْ كانَ هو المقصودَ لكنَّه لا بُدَّ في غيرِ بدلِ الغلطِ من صحةِ المَعْنى بدونِه، ولا ريبَ في أنَّ قولَنا اتخذوهُم من دونِ الله قُرباناً، أي متقرباً به مما لا صحةَ له قطعاً؛ لأنَّه تعالَى متقرَّبٌ إليهِ لا متقرَّبٌ بهِ فلا يصحُّ أنَّهم اتخذُوهم قرباناً متجاوزينَ الله في ذلكَ وقرئ: {قُرُباناً} بضمِّ الراءِ {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي غابُوا عنْهم وفيه تهكمٌ آخرُ بهم كأنَّ عدمَ نصرِهم لغيبتِهم أو ضاعُوا عنُهم أي ظهرَ ضياعُهم عنهم بالكُليَّةِ، وقيل: امتنعَ نصرُهم امتناعَ نصرِ الغائبِ عن المنصورِ {وَذَلِكَ} أي ضياعُ آلهتِهم عنُهم وامتناعُ نصرِهم {إِفْكِهِمْ} أيْ أثرُ إفكِهم الذي هُو اتِّخاذُهم إيَّاهَا آلهةً ونتيجةُ شركِهم. وقرئ: {أفَكُهم}، وكلاهُما مصدرٌ كالحِذْرِ والحَذَرِ، وقرئ: {أَفَكَهُم} على صيغةِ الماضِي، فذلكَ إشارةٌ حينئذٍ إلى الاتخاذِ أيْ وذلكَ الاتخاذُ الذي هذه ثمرتُه وعاقبتُه صرفَهُم عن الحقِّ، وقرئ: {أَفَّكَهُم} بالتشديدِ للمبالغةِ، و{آفَكَهُم} من الأفعالِ أي جعلهم آفكين، وقرئ: {آفِكُهُم} على صيغةِ اسمِ الفاعلِ مضافاً إلى ضميرِهم أي قولُهم الإفكُ أي ذُو الإفكِ، كما يقالُ قولٌ كاذبٌ. {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عطفٌ على إفكُهم أي وأثرُ افترائِهم على الله تعالى، أو أثرُ ما كانُوا يفترونه عليه تعالى، وقرئ: {وذلك إفكٌ مما كانوا يفترون} أي بعض ما كانوا يفترونَ من الإفكِ.


{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} أمَلْناهم إليكَ وأقبلنا بهم نحوَكَ. وقرئ: {صرَّفَنا} بالتشديدِ للتكثيرِ، لأنَّهم جماعةٌ، وهُو السرُّ في جمعِ الضميرِ في قولِه تعالى {يَسْتَمِعُونَ القرءان} وما بعدَهُ، وهو حالٌ مقدرةٌ من نفراً لتخصصِه بالصفةِ، أو صفةٌ أُخرى لَه أي واذكُرْ لقومِكَ وقتَ صَرَفنا إليكَ نفراً كائناً من الجنِّ مقدَّراً استماعَهم القُرانَ. {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي القرآنَ عند تلاوتهِ أو الرسولَ عند تلاوتِه له على الالتفاتِ والأولُ هو الأظهرُ. {قَالُواْ} أي قالَ بعضُهم لبعضٍ {أَنصِتُواْ} أي اسكتُوا لنسمعهُ {فَلَمَّا قُضِىَ} أُتمَّ وفُرغَ عن تلاوتِه، وقرئ على البناءِ للفاعلِ وهو ضميرُ الرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهذا يؤيدُ عودَ ضميرِ حضروه إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ. {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مقدِّرينَ إنذارَهُم عند رجوعِهم إليهم. رُويَ أنَّ الجِنَّ كانتْ تسترق السمعَ فلما حُرستِ السماءُ ورُجموا بالشهبِ قالُوا ما هَذا إلا لنبأٍ حدثَ فنهضَ سبعةُ نفرٍ أو ستةُ نفرٍ من أشرافِ جنِّ نصيبينَ أو نِينَوى، منُهم زوبعةُ فضربُوا حتى بلغوا تِهامةَ ثم اندفعُوا إلى وادِي نخلةَ فوافَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائمٌ في جوفِ الليلِ يُصلِّي أو في صلاةِ الفجرِ فاستمعُوا لقراءتِه وذلكَ عند منصرفِه من الطائفِ. وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ: ما قرأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجِنِّ ولا رآهُم وإنَّما كان يتلُو في صلاتِه فمرُّوا به فوقفُوا مستمعينَ وهو لا يشعرُ بهم فأنبأهُ الله تعالَى باستماعِهم. وقيلَ: بلْ أمرَهُ الله تعالى أنْ ينذرَ الجنَّ ويقرأَ عليهمِ فصرفَ إليه نَفَراً منهم جمعَهُم له فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنِّي أُمرتُ أنْ أقرأَ على الجنِّ الليلةَ فمن يتبعُني قالَها ثلاثاً» فأطرقُوا إلا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ قالَ فانطلقنَا حتَّى إذَا كُنَّا بأعلى مكةَ في شِعب الجحونِ خطَّ لي خطَّاً، فقالَ: «لا تخرجْ منه حتَّى أعودَ إليكَ». ثم افتتحَ القرآنَ وسمعتُ لغطاً شديداً حتَّى خفتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وغشيْتُه أسودةٌ كثيرة حالتْ بيني وبينَهُ حتى ما أسمعُ صوتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ثم انقطعُوا كقطعِ السحابِ فقالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هلْ رأيتَ شيئاً» قلتُ نعم رجالاً سُوداً مستشعرِي ثيابٍ بيضٍ فقالَ: «أولئكَ جنُّ نَصيبينَ وكانُوا اثني عشرَ ألفاً» والسورةُ التي قرأَها عليهم اقرأْ باسمِ ربِّك.
{قَالُواْ} أي عندَ رجوعِهم إلى قومِهم {ياقومنا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} قيلَ: قالُوه لأنَّهم كانُوا على اليهوديةِ. وعنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهُمَا: إنَّ الجنَّ لم تكُن سمعت بأمرِ عِيْسَى عليه السَّلامُ. {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أرادُوا به التوراةَ {يَهْدِى إِلَى الحق} من العقائدِ الصحيحةِ {وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} مُوصلٍ إليهِ وهُو الشَّرائعُ والأعمالُ الصالحةُ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5